ظاهرة "التلبس الجني" من وجهة نظر الطب النفسي
وتناولنا
للقضية من وجهة نظر الطب النفسي ينحصر في الجانب الطبي والعلاجي, فثمة
تطابق كبير بين الأعراض المرضية ذات المنشأ النفسي, والأخرى الموسومة
بالأسباب الجنية والمنشأ الشيطاني, فالحالات المرضية التي يشخصها المعالجون
بالرقى الشرعية على أنها تلبس أو مس أو سحر تتشابه في أعراضها وصفاتها إلى
حد كبير مع توصيفات الطب النفسي لكثير من الحالات المرضية, وقد حرصت على
استطلاع رأي طبيب يجمع بين الاختصاص في الطب النفسي, والخلفية الإسلامية
المستنيرة, فالدكتور محمود أبو دنون اختصاصي الطب النفسي ومدير عام
المستشفى الإسلامي حاليا, ذو خبرة واسعة وطويلة في ممارسة الطب النفسي, وهو
إسلامي الفكر والممارسة, التقيته في مكتبه في المستشفى الإسلامي وكان هذا
الحوار.
ملاحظات ومؤاخذات
وقبل إيراد الحوار بأسئلته وأجوبته أتجرأ قليلا فأبيح لنفسي تسجيل الملاحظات التالية:
•
إن كثيرا من المعالجين بالرقى الشرعية لا يأبهون كثيرا بالطب النفسي, بل
إن منهم من يستهزئ بالأطباء, ويقلل من شأنهم, اعتقادا منهم أنهم يمتلكون
الحل الشرعي لكثير من الأمراض المزمنة والحالات المستعصية, وقد تجد من
أولئك من يطلب من بعض المرضى النفسيين الذين يتعاطون الأدوية من سنوات
عديدة أن يتوقفوا عنها ويلتزموا بالعلاج الذي يصفونه هم لهم, مما يحدث
لأولئك المرضى انتكاسات حادة, وارتدادات عكسية مدمرة.
• إن
كثيرا من المعالجين هجامون قحامون يفتقدون لأدنى ثقافة طبية, فهم يهجمون
على تشخيص الحالات بكل جرأة واستهتار, فما أسهل قولهم فلانا ملبوسا, أو ها
هو الجني ينطق على لسانه, فما أدراك أنه ملبوس؟ وكيف حكمت عليه بذلك؟ ومن
أين لك أن الذي يتكلم على لسانه جني؟ وكيف تبيح لنفسك أن تقوم بخنقه والضغط
الشديد والمؤلم على بطنه ورقبته ومن ثم ينحبس الدم فلا يصل إلى الدماغ ,
مما يدخل المريض المخنوق في غيبوبة, لا أدري كيف يثقون بكلام الجن حال
تلبسهم للإنس كما يقولون, ونطقهم على لسانهم, فيبنون على ذلك الأحكام
ويقررون التشخيص والعلاج.
• يقلد أكثر المعالجين بعضهم بعضا
فتجدهم يطلبون من مراجعيهم إحضار الماء وزيت الزيتون, ليقرؤوا لهم عليه, ثم
يكون جزءا من العلاج حيث يطلب من المريض الاغتسال بالماء المقروء عليه,
ودلك أعضاء الجسم بالزيت المقروء عليه كذلك, لا أدري من أين جاءت فكرة
إزعاج الجني والتضييق عليه بواسطة الماء والزيت, فهل صحيح أن الجن يخافون
من هكذا أفعال, وهل يمكن التأثير عليهم إن سلمنا بوجودهم في جسم الملبوس
بهكذا أعمال؟ ولماذا لا يخرجون حينما تقرأ عليهم السور الطوال, وقد ثبت في
الحديث النبوي أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا تدخله الشياطين, فإذا
كانت قراءة سورة البقرة تقف حاجزا أمام الشياطين فلا يدخلون البيت الذي
تقرأ فيه, أفليس من باب أولى أن تفر الشياطين من جسم الملبوس حينما تقرأ
عليه سورة البقرة؟ شاهدت شخصا مريضا عند أحد المعالجين, وقد طالت فترة
علاجه, والجنية المتلبسة به لا تخرج منه ولا تفارقه, أضحكني جدا تعليل
المعالج حينما سألته عن سبب طول مدة علاجه, وعدم خروج الجنية منه مع طول
القراءة واستمرارها, فقال: إن الجنية أصبحت جزءا من شخصيته, وقد أثرت فيه
حتى أكسبته من طباعها وسلوكياتها!!!
• حينما تحضر بعض جلسات
"تخريج الجن" ـ كما يسمونها ـ تصك سمعك كلمات المعالجين وهم يهددون الجن
المتلبس ويتوعدونهم بأنهم سيقومون بحرقهم بالآيات القرآنية, لقد شاعت هذه
الفكرة وطارت واستقرت وتمكنت في أوساط المعالجين, وكم هي الحالات التي تمت
فيها عملية حرق الجن, غير أنهم عادوا ورجعوا مرة أخرى إلى الشخص نفسه, هذه
مساحة واسعة تستحق الدراسة والتحليل فكيف نشأت هذه الفكرة؟ وكيف يجزم
المعالج بأنه قام بحرق الجني؟ وما هي الآلية التي يتبعها حتى توصله إلى
هكذا نتائج؟ بل إن منهم من يستعمل الكهرباء في تهديد الجني وتخويفه, وبعضهم
يستعملها فيقوم بلسع أعضاء المريض بها, وهم يعتقدون أن اللسع والإيذاء
واقع على الجني المتلبس للتضييق عليه وحمله على الخروج!
• إن
بعض المعالجين قد أباح لنفسه مس النساء, حيث يضع يده على رؤوسهن, ومنهم من
يقوم بخنقهن والضغط على بطونهن بيده ورجله, وأحدهم يعلل ذلك قائلا: إن جلسة
العلاج بالضغط تقوم مقام عدة جلسات من غير ضغط!! وبعضهم يفتي نفسه بأنه
يفعل ذلك بحكم الحاجة والاضطرار, لقد استأت من أحد المعالجين وهو يخنق أحد
المرضى بطريقة قاسية وعنيفة, فلما أنكرت عليه ذلك, قال: إن الخنق لا يقع
عليه وإنما على الجني المتلبس, تساءلت ومن أين لك أن الجني المتلبس حاضر
والخنق يقع عليه؟
• يلاحظ أنه كلما انتشرت الثقافة الطبية,
وارتفع مستوى الوعي الصحي, أكثر الناس من التدقيق والمراجعة, وتمنعوا عن
التسليم بكل ما يسمعون ويقال لهم, حتى إن بعض المعالجين بالرقية حينما شرع
قليلا في تثقيف نفسه طبيا وصحيا, وخصوصا في علم النفس, والطب النفسي بدأت
رؤاه تتغير, وأخذت أفكاره تتحول شيئا فشيئا, ومن أولئك الشيخ السعودي
المشهور مشرف العمري, وهو من أوائل المعالجين, وهو كذلك صاحب شريط "مرجانه"
تلك الجنية كما قيل التي أسلمت على أيدي الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه
الله ـ خرج على الناس بمقالة يصرح فيها بعدم وجود حالات تلبس ومس, مما أثار
عليه ردود فعل ساخطة من المؤسسة الدينية المحافظة التي أنكر رجالاتها ذلك
الرأي الجريء لأنهم يرونه مصادما لعقيدة أهل السنة والجماعة في المسألة,
ومن ثم كان الشيخ العمري ينصح مراجعيه بمراجعة الأطباء النفسيين, ليت شعري
هل يعلم كثير من المعالجين ما هي الأمراض النفسية؟ وما هي أعراضها؟ وماذا
يحدث للدماغ حينما يصاب الإنسان بمرض نفسي؟ فيما يلي شهادة الدكتور محمود
أبو دنون
لا علاقة للجن بالظاهرة
سألته بداية حول
نظرة الطب النفسي إلى وجود عالم الجن, وعن علاقتهم بعالم الإنس, وتلبسهم
بهم, وصرعهم لهم, أجابني: بأنه لا يوجد في الطب النفسي رؤية محددة وموحدة
حول هذه القضية, ولكنه يدلي برأيه كطبيب نفسي ممارس للعلاج لسنوات طويلة,
يقول: لقد كنت سابقا أؤمن بوجود الظاهرة, ولكنني لما درستها دراسة مستفيضة
من خلال مشاهداتي وسماعي ودراستي للحالات الكثيرة المعروضة علي أيقنت تماما
أن القضية لا علاقة لها بالجن وأنها ذات أسباب وعوامل نفسية محضة, وتلك
الحالات في أغلبها تندرج تحت ثلاث مسميات؛حالات هستيرية, وحالات ذهانية,
وحالات صرعية, ومما رسخ قناعتي تلك, وزاد يقيني ما شاهدته قبل شهور على
شاشة إحدى الفضائيات العربية التي احتوت إحدى حلقاتها مشهدا لأحد القساوسة
وهو يعالج ويخرج الجن بالصليب, وكان المريض يستجيب وتنتابه حالات هستيرية
من الصراخ والهيجان, مما يدل على دور الإيحاء والتنويم الإيحائي, وأن
القرآن الكريم لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بظاهرة التلبس ونطق
الجني على لسان المريض, وإنما القضية برمتها تتمثل في وقوع المريض تحت
تأثير إيحاء المعالجين.
أما حول ما يقال ويشاع في أوساط
المعالجين بالرقى الشرعية من حضور الجني المتلبس ونطقه على لسان الإنسي
الملبوس, فقال: لا وجود لشخصية أخرى غير شخصية الإنسي, والذي يتكلم وينطق
ويخاطب هو العقل الباطن للشخص المريض, وفي الحقيقة لا يوجد أي دليل على
وجود هوية كائن آخر, فلا يمكن للمريض أن يقدم في حال تلبسه كما يقولون أية
معلومة لا يعرفها الشخص نفسه, وقد تكون تلك المعلومة موجودة ولكنها اختفت
وانطمرت في العقل الباطن, والذي يقوم باستدعائها في وقت من الأوقات, وذات
يوم أحضروا لي مريضة وقالوا إن الجني المتلبس بها يتكلم العبرية, مع أنها
لا تعرف العبرية مطلقا, وبعد سنتين من تلك الحادثة حضرت المريضة نفسها إلي
فسألتها عن ذلك, فقالت لقد كنت أتعلم العبرية في كتاب تعلم العبرية من غير
معلم, فكل هذه الأعراض ناتجة عن أمراض نفسية ولا يوجد أي دليل على وجود
شخصية أخرى ذات هوية مستقلة, أو معرفة متميزة عن معرفة المريض.
في
الحقيقة إن هذه الملاحظة الهامة من الدكتور أبو دنون قد لمستها عمليا,
فخلال مشاهداتي للحالات المرضية, وزياراتي للمعالجين استرعى انتباهي أنك لا
تلمس أن ثمة حضورا لشخصية أخرى, فإذا كنت تعلم تاريخ المريض وثقافته
وطبيعة تفكيره, وحصيلة معلوماته, فستجد أن من يتكلم في حالة حضور الجني على
لسانه كما يقولون هو ذات الشخص من غير فارق يذكر, وقد طلبت من بعض
المعالجين أن يطلعني على حالات يظهر فيها التمايز بين شخصية المريض الملبوس
وشخصية الجني المتلبس, إلا أنني لم أظفر بشيء يعتد به في هذا الباب.
سألت
الدكتور أبو دنون عن تلك الحالات التي يشخصها المعالجون بالرقى الشرعية
على أنها حالات ناتجة عن التلبس الجني, هل يمكن تصنيفها وتحليلها تحليلا
نفسيا؟ فأجاب بالطبع يمكن تصنيف كل تلك الحالات ضمن التصنيف العالمي للطب
النفسي, وإذا ما وجدت حالة لايمكن إدراجها ضمن تلك التصنيفات تسمى حالة
شاذة, أما تلك الحالات التي يقال عنها أنها تلبس ومس فهي خاضعة لتلك
التصنيفات, ولم أجد حالة يمكن أن يقال عنها إنها شاذة.
وأكد
الدكتور أبو دنون أن كثيرا من الحالات إذا ما أخضعت لعلاج نفسي فإنها
تستجيب للعلاج وتتحسن بشكل ملحوظ, وذكر أن مريضا راجعه وكان مما يشتكي منه
أنه يتوهم أنه يسمع أصواتا تناديه, ويرى صورا تخاطبه, فيقول الدكتور: لقد
أخضعته لعلاج استمر عدة أسابيع بعدها اختفت تلك الأصوات وغابت تلك الصور
تماما فلم يعد يسمع أو يبصر شيئا من تلك الأصوات والصور.
مما
استوقفني خلال مشاهداتي لجلسات المعالجة, ومحاورتي للمعالجين والمرضى, أن
شخصية المعالج ذات تأثير قوي على المريض, الأمر الذي حملني على سؤال
الدكتور أبو دنون عن دور الإيحاء, والتنويم الإيحائي في طريقة علاج بعض
القراء والمعالجين بالرقية, فهل يمكن من خلال الإيحاء السيطرة على المريض
وجعله يتقمص شخصية أخرى, أو يقوم بأعمال ويتلفظ بكلمات تحت تأثير الإيحاء؟
فأجاب بكل تأكيد فبعض الناس يمتلك مقومات وصفات تؤهله ليمارس دور تأثير من
خلال الإيحاء والتنويم الإيحائي على المرضى, مما يجعله يتصرف بطريقة معينة,
أو يتلفظ بكلمات محددة, وفي الحقيقة فإن الشخصيات الهستيرية هي أكثر
الشخصيات استجابة وقبولا لتأثيرات الإيحاء والتنويم الإيحائي, وأنا أستطيع
القول بأن كثيرا من المعالجين يمارسون دور المنوم الإيحائي دون أن يعلموا
ويشعروا هم بذلك, ولا علاقة للآيات القرآنية المتلوة بذلك أبدا, لأنك تجد
من يخرج الجن ويطردهم كما يقولون بالإنجيل أو بالصليب كما في حلقات تلك
الفضائية, أو بغير ذلك, فالقضية واقعة في دائرة الإيحاء والتنويم الإيحائي
وتأثير شخصية المعالج على المرضى ولا تخرج عن ذلك.
أما عن رؤيته
الشخصية كطبيب نفسي صاحب خلفية دينية وشرعية فهو يرى أن العلماء الشرعيين
ليسوا على رأي واحد في المسألة, فهو قد استمع إلى آراء المثبتين لوجودها
وآراء النافين لها, وهو يصطف خلف المنكرين والنافين لها لان الأدلة التي
يوردها المثبتون لا تثبت ذلك صراحة وبشكل واضح وقاطع, يضاف إلى ذلك أن كل
تلك الحالات ناشئة عن أسباب وعوامل نفسية ولا علاقة للجن بها وهذا ما تقرر
لديه من خلال ممارسته للطب النفسي لعشرات السنوات.