أن امتلاك مكونات أي مجتمع لصور متقاربة عن أية جهة أو قضية، هو الأساس الذي لا غنى عنه لأي حوار وتفاهم
بين
تلك المكونات وصولاً إلى القدرة على الرؤية المشتركة للأمور الأساسية في
الحياة، وتكون المصالح المشتركة ، واتخاذ المواقف المشتركة. فهل لدى
المكونات العراقية الثلاثة مثل ذلك التصور المشترك بحدوده الدنيا؟ هل هناك
تقارب في رؤية الكرد والعرب، الشيعة والسنة، من الموقف من سوريا مثلاً، أو
إيران أو تركيا أو الأردن؟ هل يرون الدور الذي تلعبه أميركا بمنظار متقارب،
إن لم يكن مشتركاً؟ هل هناك أية مشتركات في وجهة النظر بين العرب والكرد
من إسرائيل مثلاً؟ إن لم تكن هناك رؤية مشتركة، فهل يستطيع العرب أن
يتفهموا الحماس الكردي لأميركا وتعاطفهم مع إسرائيل، وهل يستطيعون قبوله؟
وهل يستطيع الأكراد أن يفهموا موقف العرب من إسرائيل ويتعاطفوا معه؟ هل يقف
السنة والشيعة موقفاً متشابها من التطور النووي الإيراني مثلاً؟ هل
يستطيعون مناقشة ذلك الإختلاف، والتعايش معه؟
في رأيي أن
فئات العراقيين سمحت أن تسير مواقفها كل في طريق مخالف وأحياناً مناقض،
لمواقف بقية الفئات، ودون محاولة جدية لمناقشة الفرق والإتفاق على الحد
الأدنى، ولم تبذل الحكومة ولا الجهات الثقافية والإعلامية أي جهد يذكر من
أجل إبقاء الحوار حياً، لكي يبقى الفرق في المواقف ضمن المقبول ولا يتحول
إلى تناقض خطير يهدد كيان المجتمع العراقي، وفي نهاية الأمر إقتنع كل
بموقفه واستحالة مناقشة الآخر وإقناعه أو الإقتراب منه.
في
تصوري، لقد لعب الإعلام المدفوع الأجور أجنبياً، وبالتعاون مع الإرهاب
المنظم (أجنبياً أيضاً، حسب تقديري)، دوراً أساسياً في تباين تلك الصور،
وإدامة ذلك التباين من خلال "العزل المكاني" الذي قام الإرهاب بواجبه فيه،
من خلال السياسة المخططة الرامية إلى فصل المناطق الشيعية عن السنية،
وتصفية المناطق المشتركة من خلال التهجير على مدى سنوات. كما قام الإعلام
بدور متقن في "العزل الإعلامي" بين الطرفين وصار كل جانب يمتلك وسائل
إعلامه التي تقول ما يناسبه. أما الكرد فهم معزولين مكانياً إلى حد بعيد،
كما أن اللغة والعواطف وتراث الإضطهاد كانت أكثر من كافية لعزلهم إعلامياً
وعاطفياً عن العرب في العراق.
وفي معرض تحليلي للإرهاب في العراق، كتبت عن هذين النوعين من العزل بالتفصيل في مقالات سابقة ولن نناقشها هنا ثانية.
لقد
كان الشيعة والسنة يرى كل منهما الآخر، بشكل عام، كفئة طيبة من فئات
العراق، ويرى السنة أن هناك عدم ثقة من قبل الحكومات بالشيعة، يؤدي إلى
تهميشهم بدرجة ما، وكان الشيعة يرون التهميش أكبر مما يراه السنة. كان
الشيعة يرون أن السنة يحصلون على أكثر من حقهم من الإهتمام الحكومي، وربما
يعترف الكثير من السنة بذلك، بدرجة أو بأخرى، لكن أحداً منهما لم يكن يلوم
الفئة الأخرى على ذلك حسب تجربتي، فالعلاقة بين الفئتين كانت أكبر وأقوى من
علاقة اية فئة بالحكومات.
وكان كل من الكرد والعرب، يرون
أن الحكومات تضطهد الكرد وترهبهم وتقوم ضدهم بالحملات العسكرية، وأن الكرد
أبطال يناضلون من أجل حقوقهم القومية المهضومة. ومن خلال العلاقة بين الناس
من العرب والكرد، يمكنني القول بأن الكرد لم يكونوا يرون "العرب" كمضطهد
لهم، بل الحكومات، التي ليس لهؤلاء العرب من الناس، أي قدرة للتأثير عليها،
حتى لو قامت باضطهادهم هم انفسهم، كما تبين التجارب!
مما لا شك فيه
أن الكرد والشيعة كانوا يرون الظلم ضدهم بصورة أوضح مما كان يراه السنة
والعرب، وهذا امر طبيعي، لكن مع ذلك كان هناك جزء كبير مشترك في التقدير
للموقف. لم يلم هؤلاء الذين عانوا من الظلم، السنة العرب على ذلك الظلم،
ولم يتصور الكرد أن مواطنيهم العرب هم السبب في حروب الحكومات ضدهم
وبالتأكيد لم يتمنى العرب هزيمة الكرد في هذا الصراع، بل كانوا يرونهم
كأبطال هيأت لهم ظروفهم وشجاعتهم أن يفعلوا ما لم يستطع العرب أن يفعلوه
تجاه تلك الحكومات، رغم بعض المحاولات. وطالما تعاون الكثير من العرب
والكرد حيثما أمكن، في قتال تلك الحكومات.
وينطبق نفس الأمر في
العلاقة بين السنة والشيعة إلى حد بعيد، وربما فيما عدا قضايا صغيرة محددة،
لم يكن هناك فرق يستحق الذكر بين مواقف الشيعة والسنة من الحكومة.
ربما
لم تكن الآراء متطابقة ولم تكن التقديرات متشابهة، ولم تخل تلك الطوائف من
نسبة بسيطة جداً، لها آراء حادة من الطوائف الأخرى، خاصة بين غير
المتعلمين وندرة من سكنة المناطق غير المختلطة، لكن الخط العام كان سليماً
ومتقارباً وكان النقاش والحوار والوصول إلى نتيجة أمراً ممكناً دائماً،
وكان هناك اعتراف من السنة ببعض التهميش للشيعة خاصة في الوظائف الأمنية
والعسكرية من قبل الحكومات لقلة الثقة بهم، أحياناً لأسباب طائفية وأخرى
لوجود التنظيمات الدينية القوية لدى الشيعة ، خلاف السنة، وهو ما تراه
الحكومات الدكتاتورية المختلفة، خطراً يشبه خطر التجمعات الحزبية.
لقد
تطورت المشكلة كثيراً خلال سنوات الإحتلال، ولم يكن الأمر صدفة في رأيي،
بل يبدو كعمل مخطط لفصل الجانبين مكانياُ و إعلاميا كما أسلفنا، وتشكلت لدى
كل منهما قناعات ومواقف مختلفة عن الآخر بشكل كبير، وهو ما تسبب في
انفصالهما روحيا وعقلياً إلى درجة لم يشهد العراق مثلها من قبل في تاريخه،
وهو ما يهيئ الظرف لتقسيم العراق.
ومع الوقت وعدم اتخاذ
الحكومات والمثقفين اية إجراءات تستحق الذكر لمواجهة هذا الخطر، تفاقم
الأمر ولم يعد الفرق في التصورات مقتصراً على المواقف من الأحداث، وإنما
حدث خلل إضافي في تصور كل فئة عراقية عن الفئات الآخرى، وحدث اختلاف حاد
بين الصورة التي ترى كل فئة نفسها بها، وتلك الصورة كما يراها الآخرون،
وهذا تطور نوعي خطير يجعل الفئات المختلفة ليست منفصلة فقط، وإنما ترى كل
الآخرى موضع الشك والإتهام، وكثيراً ما تكون متعادية وكل منها يعتبر الآخر
خطراً عليه، في الوقت الذي يرى نفسه كضحية بريئة فقط.
لو
لم تكن فئات الشعب العراقي تعيش بشكل منفصل مكانيا وثقافياً، لتمكنت هذه
الصور المتناقضة أن تتواجه في النقاش، وأن يتبين كل طرف مدى خطأ الصورة
التي لديه عن الآخر، ولتمكن كل طرف أن يبين للآخر وجهة نظره وأن يقنعه
بوجهة نظره ، حتى لو لم يكن بشكل تام، وبذلك يتم قص الحافات الحادة من
الخطأ، والجزء الخطر منه، ويعود من الممكن أن يتم النقاش والحوار والعلاقة
الطبيعية.
ما أود طرحه والمساهمة في إثارة مناقشته هنا: هل
تستطيع أي من فئات الشعب العراقي، خاصة في هذا الظرف العصيب، أن تتخيل
ماهي صورتها عند بقية الفئات بعيداً عن رؤيتها الذاتية لنفسها؟ وقبل ذلك،
لنسأل: هل تهتم أية فئة بمعرفة صورتها تلك كما تراها عين تلك المكونات؟ هل
تهتم بتصحيحها إن رأتها مشوهة، وهل هي مستعدة لأن تبذل الجهد اللازم لدراسة
موضوعية لأسباب هذا التشوه في صورتها لدى الآخر وتعمل على تصحيحها؟ هل هي
مستعدة أيضاً لتصحيح الصورة التي لديها عن الآخر إن اكتشفت خطأها؟
يجب
عدم التعجل باستسهال ذلك الأمر، لكن مما لا شك فيه أن الأجوبة عن هذه
الأسئلة يجب أن يكون بالإيجاب، إن كان هذا الشعب العراقي يريد أن يبقى
كشعب، ولا يتجزأ إلى إمارات صغيرة كما تريده له قوى تستفيد من ذلك. أو على
الأقل أن يفهم كل جانب، الجانب الآخر، حتى إن أراد الإنفصال عنه.
من
خلال متابعاتي الصحفية، أرى أن كل من مكونات الشعب العراقي الثلاثة
الأكبر: الشيعة والسنة والأكراد، تعيش عالمها الخاص وتصوراتها الخاصة عن كل
من بقية المكونات، وأن كل منها يرى الآخر في صورة بعيدة كل البعد عن
الصورة التي يراها ذلك الآخر عن نفسه. صورة أسوأ كثيراً، وربما أسوأ كثيراً
مما يتخيل ذلك الآخر. ولأن متابعاتي تقتصر على متابعة رؤية الشيعة للسنة
والسنة للشيعة والعرب للكرد، دون رؤية الكرد للعرب فسوف لن أتطرق لهذه
الأخيرة، مكتفياً بالصور الثلاثة الأولى. الصور الثلاثة مشوهة تماماً،
وسلبية إلى درجة كبيرة، وسأحاول قدر الإمكان أن أعرض تلك الصور أمام
أصحابها، مع أسباب تشوهاتها حسب فهمي للأمر، داعياً الجميع إلى مراجعة ذلك
ومحاولة إصلاح صورته أمام الآخر لتعكس حقيقته التي هي في تقديري أفضل
كثيراً من تلك الصور.
هذا التصحيح لن يكون سهلاً، ولن يكون
مجرد جهد إعلامي، فالصورة المشوهة ليست فقط نتاج إعلام ناقص، بل ايضاً
تصرفات لا أبالية و بعض المواقف غير المسؤولة، خاصة من القيادات السياسية.
هذه المواقف تعطي انطباعاً سيئاً لدى الطائفة الاخرى لايمكن إصلاحه
بالإعلام ما لم يتم معالجة الخطأ وتصحيح تلك المواقف. فالكثير من المواقف
التي تبدو طبيعية للجهة التي تقوم بها، ستبدو غير طبيعية من وجهة نظر
الجانب الآخر، ويمكن ببعض الجهد والنقاش والأسئلة تفهم هذا الفرق، وبالتالي
تتاح الفرصة لتعديله.
كذلك يتم أحياناً التغاضي عن بعض التصرفات
التي تعطي انطباعاً سلبياً للجانب الآخر، حتى لو علم صاحبها بذلك مسبقاً،
وذلك برغبة "الإنتقام" أو المعاملة بالمثل، أوعدم الإهتمام بشعور المقابل.
فبما أني أرى الجانب الآخر مسرف في "سوئه"، ولا يبالي، فلماذا أبالي أنا
بمشاعره وانطباعاته؟
لكن المكاشفة كفيلة بكشف العديد من المفاجآت،
وستكشف لكل جانب بالتأكيد أنه تصور الآخر أسوأ بكثير من حقيقته، وأعطى
انطباعاً سيئاً عن نفسه، حتى حين لم يكن يقصد ذلك او يدري به. وإن تمكنّا
من حث البعض على إبداء الإهتمام بمشاعر المقابل، والتقدم نحوه خطوة، فأن
نفس مبدأ "المعاملة بالمثل" الذي أسهم في زيادة التوتر كما أشرنا، سيكون في
خدمة إعادة بناء العلاقة السليمة والطبيعية التي كانت بين الطرفين من قبل.
وفي
الوقت الذي اتصور فيه أن تصحيح الصور بين الشيعة والسنة سوف يخدم في ردم
الهوة بينهما وصولاً إلى عراق اكثر وحدةاً وتآلفاً، فأن الأمر ربما يكون
مختلفاً بالنسبة للأكراد. فما عدا الجهد اللازم لتغيير الصورة السيئة لديهم
عن العرب وبالعكس، وشدة التقارب الإسرائيلي الأمريكي معهم وتغلغله في
كردستان والثقافة والوعي الكرديين، والمعاكس للجانب العربي الذي يرى فيه
خطراً عليه، عدا هذا فأن "وحدة العراق" بالنسبة للشعب الكردي لا تعتبر
طموحاً، بل تصطدم بطموحه القومي القوي والمشروع. والوقوف بوجه هذا الطموح،
مهما كانت النوايا، ستكون له نتائج سلبية وسيكون له رد فعل معاكس شديد.
لكن
توضيح أسباب التشويه في صورة الكرد لدى العرب، وتنبيههم إلى مدى الإساءة
والضرر الذي لحق الجانب العربي من العراق، جراء تصرفات قادتهم والجو
الثقافي المعادي للعرب السائد لديهم، مهما كانت أسبابه التاريخية، قد يسهم
(هذا التوضيح) في أن يتخذ الكرد موقفاً أكثر تفهماً واعتدالاً من العلاقة
بين الشعبين من الناحية الإنسانية حتى إن لم يكن ممكناً ردم الهوة من
الناحية الوطنية. فتصوري أن قضية انفصال كردستان مسألة منتهية، بل أن
تأخيرها فيه ضرر للطرفين، وكل يوم يبقى فيه الكرد والعرب في عراق موحد،
يمثل إضراراً للعرب لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى فأنه
يمثل مخاطرة بضياع فرصة الشعب الكردي المتاحة الآن من أجل استقلاله بشكل
مناسب وبأقل الأضرار للطرفين، والتعجيل بالإنفصال والمساعدة على إقامته،
ربما بتقديم بعض التنازلات، قد يسهم في تفهم الطرفين لبعضهما البعض
ويساعدهما في بناء جيرة سلمية مستقبلاً قدر الإمكان، وتخفيف الضرر الذي لا
مفر منه، متمثلاً بوجود دولة ترتبط عضوياً بإسرائيل على حدود العراق.
في
الحلقات الثلاث التالية سوف نناقش على التوالي صورة السنة لدى الشيعة، ثم
الشيعة لدى السنة وأخيراً صورة الكرد لدى العرب، ومن المحتمل إضافة حلقتين
لصورة العلمانيين لدى الإسلاميين والإسلاميين لدى العلمانيين إن سمح الوقت
والظرف. هذه الصور جميعها سلبية ومشوهة وسنحاول وضع أصبعنا على المسببات
الموضوعية لتلك التشوهات، لنعطي الفرصة لكل جانب لتحسين صورته أمام الفئات
الأخرى في الوطن لتعكس النواحي الإيجابية - الإنسانية والوطنية - التي
يمتلكها، أملاً في علاقة أفضل بين مكونات الشعب العراقي، وتفويت الفرصة على
من يريده بلداً مفتتاً متصارعاً إلى الأبد، ويريد لشعبه التخلف والعذاب
إلى الأبد.